الهوية موضوع فلسفي بالأصالة. عالجه الفلاسفة المثاليون والوجوديون على حد سواء، المثاليون ميتافيزيقياً وحولوه إلى قانون الهوية. والوجوديون نفسياً منعاً لانقسام الذات على نفسها وبالتالي إنكار الوجود الإنساني. وقد يصبح عند بعض الفلاسفة القانون الأول في الفكر وفي الوجود مثل «فيشته». والغيرية ليست قانوناً مستقلا بذاته مغايراً بل هو نفي للهوية «اللا أنا». ويكون القانون الجدلي الموضوع: الأنا. نقيض الموضوع: «اللا أنا». ومركب الموضوع «الأنا المطلق». إنه تكرار لفظي للضمير المنفصل «هو» مثل معظم مصطلحات الفلاسفة ومشاكلهم. من الطبيعي أن يطابق الشيء ذاته وألا ينفصم عنها في غيره. هذه طريقة الميتافيزيقا، إثارة الغبار ثم الشكوى من عدم الرؤية. فهي بالنسبة للوضعيين مشكلة زائفة مثل معظم قضايا الميتافيزيقا أو هي عبارات أدبية مصوغة على نحو عقلي. لا مضمون لها. ولا تشير إلى شيء. ولا تقول شيئاً، مجرد تحصيل حاصل. والحديث عنها لغو كلام. وهي ليست موضوعاً صورياً نظرياً لا يُفهم كما تقول العامة والتي تريد التعامل مع الأشياء العيانية الملموسة. فماذا يعني أن يكون الشيء هو هو؟ وهل الشيء غير الشيء نفسه؟ وقد يجعل البعض الماهية أكثر عمقاً من «الهوية». وفي اللغات الأجنبية لكل لفظ منفصل ماهية اللاتينية وهو فعل الكينونة. ولفظ «هوية» من الضمير "آيد" أي هو. وكما يتداخل مفهوم الهوية مع مفهوم الماهية فإنه يتداخل أيضاً مع مفهوم الجوهر. وتنتسب المفاهيم الثلاثة إلى جذر معنوي واحد، وليس جذراً لغوياً إلى مفهوم الأصل. وإذا كان مفهوما «الماهية» و«الهوية» مشتقين لغويين من نفس الجذر «هو» فإن الجوهر استعارة من علم المعادن من الجوهر النفيس. فالشيء جوهر أي غال. وهو في نفس الوقت لب الأشياء كالمعدن النفيس بالنسبة لباقي الأحجار الكريمة. والهوية خاصة بالإنسان والمجتمع، الفرد والجماعة. هي موضوع إنساني خالص. فالإنسان هو الذي ينقسم على نفسه. وهو الذي يشعر بالمفارقة أو التعالي أو القسمة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين الواقع والمثال، بين الحاضر والماضي، بين الحاضر والمستقبل، هو الذي يشعر بالفصام. وهو الذي تنقلب فيه الهوية إلى اغتراب. الإنسان وحده هو الذي يمكن أن يكون على غير ما هو عليه. فالهوية تعبير عن الحرية، الحرية الذاتية. الهوية إمكانية قد توجد وقد لا توجد. إن وُجدت فالوجود الذاتي. وإن غابت فالاغتراب. قد يعتبر بعض الوجوديين أن الهوية هي البدن لرفضهم ثنائية النفس والبدن. «أنا جسمي» كما يقول جابريل مارسل. وعن طريق الجسم أتحرك وأنتشر في العالم. ويرفض سارتر مقولة ديكارت «أنا أفكر» ويفضل أنا موجود. والوجود هو البدن قبل أن يتخلق فيه الوعي. والبدن هو الذي يجوع ويعرى، يحس ويشعر، ويبرد ويحتر، ويسكن ويبقى بالعراء، ويمرض ويصح، ويصرع ويُصرع، ويحيا ويموت. هوية الفقير في كفايته، وهوية الغني في طمعه، وهوية الجائع في إطعامه والعاري في إلباسه، والشريد في إيوائه. هي الهوية المباشرة التي يشترك فيها الجميع، الهوية الحسية التي لا تحتاج إلى وعي ذاتي لأنها سابقة عليه. الهوية التي يثور الجياع والمشردون والفقراء والمساكين والمرضى لنيلها. وقد أصبحت الهوية عنواناً لفلسفة «فلسفة الهوية» عند شلنج أي أن يكون الوجود مطابقاً لنفسه دون فصام أو انقسام أو ازدواجية أفلاطونية، تطابق الروح والطبيعة، المثال والواقع دون حركة أو جدل أو مسار كما هو الحال عند هيجل. فهي ليست فقط هوية رياضية أو منطقية أو فلسفية أو نفسية بل هي هوية أنطولوجية أقرب إلى وحدة الوجود عند الصوفية. فالهوية قد تنتقل من تجربة فردية إلى الوجود كله. الهوية ليست مجرد ظاهرة نفسية بل ظاهرة كونية. ولذلك كان أفضل منهج لتناول الموضوع هو المنهج الظاهراتي (الفينومينولوجي)، منهج تحليل الخبرات الشعورية طالما أن الهوية ظاهرة إنسانية. وهو تحليل مباشر دون الاعتماد في مقدماته أو نتائجه على أدبيات الموضوع من أجل تجاوز منهج «قال ... يقول»، وتجميع أقوال السابقين. فالقول قد يخفي العلاقة المباشرة بين الذات والموضوع. في حين أن التحليل المباشر للظاهرة يعتمد على الحدس، وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل، من النص إلى التجربة، ومن اللفظ إلى الشيء ذاته. فالمعنى الذي يدل عليه اللفظ ليس في اللفظ ولا في المعجم بل في النفس. ما النص إلا علامة أو إشارة. ولا فرق بين الوافد والموروث «بين الأدبيات الغربية والأدبيات التراثية. فكلاهما رؤى ومواد علمية مختلفة ومتباينة، إنما المهم هو التنظير المباشر للواقع، التحليل المباشر للتجربة الذاتية. وهو الفرق بين المعلومات والعلم. المعلومات نقل ما عرفه السابقون. والعلم قراءة ما بين السطور. لا يقوم البحث على تجميع للمعلومات غرباً وشرقاً بل إضافة معلومة جديدة تزيد في العلم. فلا يوجد إحساس بالنقص لدى الباحث تجاه القدماء ونصوصهم. يعرفها ويعرف ظروفها التي حاولت هذه النصوص التعبير عنها. وما أسهل نقل المعلومات وما أصعب إبداع العلم. والحدس المباشر وقلب النظرة قادران على رؤية الشيء والتعبير عنه. ولا يوجد نقص لدى الباحث تجاه معلومات الآخرين. وهو قادر على إبداع نص مثل نصوصهم. وإذا صعب تحديد الهوية إيجاباً فإنه من السهل تحديدها سلباً أي فقدان الهوية أو ما يسمى بالاغتراب، أن تخرج الهوية خارج الوجود. تتخارج وتصبح بديلا عنه. يرى فيها الإنسان وجوده، وينسى وجوده الأصلي. وقد تحدث الفلاسفة خاصة الهيجليين منهم عن الاغتراب أكثر مما تحدث الفلاسفة عن الهوية. وبالرغم مما يبدو على الموضوع من طابع فلسفي ميتافيزيقي خالص إلا أنه يرتبط بالفكر العربي المعاصر في القرنين الأخيرين منذ فجر النهضة العربية حتى الآن الذي يكشف صراع الهويات. فهو ليس موضوعاً نظرياً بل هو موضوع تاريخي يتعلق بوجود العرب في التاريخ. ومصطلح «الهوية» لفظ تراثي قديم، موجود في كتب المصطلحات مثل «التعريفات» للجرجاني. ومعناه أن يكون الشيء هو هو، وليس له مقابل مما يدل على ثبات الهوية. وهو موجود أيضاً في المعاجم والقواميس الغربية في مصطلح "آيدانديتي" وأحياناً في مصطلح «الإنية» مشتق من «أنا» بنفس المعنى. يستعمله الفارابي في كتاب «الحروف». في مقابل اللفظ الغربي "آلتريتي" ويعني الغيرية. وهو على نقيض الهوية. وقد تكون الغيرية نسبية وليست كلية، أن يحدد انحراف الهوية. وليس للفظ الأجنبي لفظ عربي قديم مقابل. وقد ترجمه المحدثون بلفظ «اغتراب»، وقد يكون المقابل لفظ «اختلاف». وهو موجود عند القدماء. وموجود في التراث الغربي الاختلاف "ديفرانس". وأصبح التقابل بين الهوية والاختلاف "الهوية والاختلاف" شائعاً. وفي التراث العربي «الاختلاف» أكثر شيوعاً من الهوية لأنه لفظ بسيط في حين أن الهوية لفظ مركب من الضمير المنفصل «هو» لا يتكرر. كما تعني «الهوية الشخصية» أو التحقق منها في تحقيق الشخصية "بطاقة هوية" أي مطابقة الشيء لنفسه. فالهوية تتعلق بالشخصية وبالعدد وبالتفرد وبالكيف كما تقول المعاجم التي تعبر عن تصورات مجردة واقتباسات من أقوال الفلاسفة. وهي في الحقيقة وقائع حسية عيانية لا تحتاج إلى كل هذا التجريد. وهذا يفرض أسلوباً وصفياً أدبياً حيث لا فرق بين الفلسفة والأدب. فليست الفلسفة أسلوباً عويصاً، ومصطلحات غربية لا تفهم بل هي أقرب إلى وصف الحياة اليومية وتحليل التجارب المعيشة. هكذا كانت الفلسفة عند سقراط وياسبرز وراسل المتأخر وأبي حيان التوحيدي وعثمان أمين وزكريا إبراهيم وزكي نجيب محمود المتأخر. ليس الأدب مجرد قصص وشعر ومسرح بل هو أيضاً تحليل فلسفي لتجارب الحياة اليومية والبحث عن دلالاتها مثل شعر أبي العلاء وشكسبير وجوته ونزار قباني وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور. بل يمتد الأمر إلى زجل بيرم التونسي والأبنودي وأحمد فؤاد نجم. وعلى هذا النحو تخرج الفلسفة من النخبة إلى الجماهير، ومن الخاصة إلى العامة دون أن تفقد دقتها وعمقها. وقد امتازت فلسفات معينة بالوضوح والبساطة مثل فلاسفة التنوير وفلسفة هنري برجسون.